تقع قريتنا فوق رابية تتوسط سهلاً فسيح الأرجاء، يحيط بها من كل جانب، يكتظ بالكروم وبيارات البرتقال، كما تنتشر في بعض جنباته حقول القمح وبساتين الفاكهه من كل نوع ولون.
وقد اختلفت فيها آراء أهلها قبل غيرهم. فمنهم من يقول إنها ليست سوى هضبة عادية، أوجدتها الطبيعة، فيما يقول آخرون انها تقوم على أنقاض مدينة رومانية غابرة. أما من زارها من اليهود القاطنين في مستعمرة (رخبوت) القريبة، أو (ريشون)، عيون قارة، الأبعد قليلاً، فقد زعموا أنها بنيت فوق أنقاض بلدة يهودية من عهد داوود وسليمان.
تشغل المباني، متباينة الأشكال، سفوح الرابية، فتبدو للرائي، عن بعد، كأنها أهرامات الفراعنة القدماء. وعند القمة يقوم مسجد القرية الأثري، الذي يرجع تاريخ بنائه الى أوائل الفتح الأسلامي لهذه الديار، قبل نيف وثلاثة عشر قرناً. وتكتنف المسجد ساحة فسيحة يتجمع فيها، معظم النهار وشطراً من الليل، لفيف من الباعة الذين لا يفتأون يعلنون عن بضاعتهم بأصوات تملأ المكان ضجيجاً : عرقسوس.. فلافل..ملبس..كرابيج حلبية... مع أن هذه لم تكن (كرابيج)و لا هي من حلب، كما تبين لي فيما بعد، الأمر الذي أكد لي كم يخدع الكبار الصغار دون أن يرف لهم جفن..!
تتشعب أزقة القرية الضيقة المتعرجة بين بيوت عتيقة، شيد بعضها من القش واللبن، وبعضها الآخر من الحجارة المقامة على غير انتظام، تكاد تتلاصق شرفاتها ونوافذها. عدد قليل منها بدا أكثر حداثة، وتلك هي منازل العائلات الثرية القليلة التي تمتلك الأراضي وبساتين البرتقال. من بين هذه المنازل دار فخمة ذات طابقين فسيحين، تملكها عائلة (الجمل)، تقع بجوار منزلنا الصغير الذي حاولوا شراءه من والدي مراراً دون أن يفلحوا، مع أنهم كانوا يملكون أكبر بيارات القرية، فضلاً عن أراضي شاسعة. وهم التجار الوحيدون للحمضيات فيها. حيث كانوا يتعهدون بيارات قريتنا والقرى المجاورة، بالضمان، ويستخدمون الكثير من أهلها طوال فصل الشتاء في موسم البرتقال، لقطفه وتغليفه، ثم نقله إلى مرفأ يافا، لكي يشحن، من ثم، الى مرافئ أوروبا، وقد رسمت على صناديقه العلامة التجارية التي طبقت شهرتها الآفاق : "برتقال يافا "Jaffa oranges ".
على الرغم من كل شيء كانت (يبنا) تبدو لوحة فنية، ارتجلتها الطبيعة على غير نسق أو نظام، فصنعت من ذلك المزيج المتنافر جمالاً أخَّاذاً.
ولئن كانت قريتنا صغيرة تكاد تنعدم فيها الخدمات العامة، لإهمال السلطات لها - ولم يكن ذلك استثناء لها على أية حال - إلا أن الحياة فيها لم تكن على قدر كبير من السوء، فهي ذات مناخ جميل، وطقس معتدل ومناظر طبيعية خلاَّبة. كما أنها تتمتع، بسبب موقعها، بعدد من المزايا التي لا يستهان بها، إذ يمر عبر أطرافها الشرقية خط السكة الحديدية القادم من محطة اللد شمالاً، والمتجه جنوباً نحو غزة ورفح، ثم العريش فالقنطرة في الأراضي المصرية. وتقوم على جانبيه أشجار الكينا الباسقة، ملقية بظلالها الوارفة على امتداده، باعثة مع تماوج الرياح، أنساماً عليلة يتفيؤها المارة من فلاحين وعمال، في غدوِّهم ورواحهم. كما يمتد عبر الأطراف الغربية للقرية طريق عريض معبد يتجه شمالاً إلى يافا، ماراً بقرى عربية عديدة، غرست بينها بعض المستعمرات اليهودية، بمعرفة حكومة الانتداب البريطاني وحمايتها. وبمحاذاة هذا الطريق، غرباً، تقع الساحة الرئيسية للقرية والتي تقام فيها، عادة، سوق الثلاثاء الشهيرة، التي يؤمها العديد من أهالي القرى المجاورة، حيث تتوافر فيها كل الأشياء، بدءاً من الخضار والفواكه، حتى الدواب والدواجن والغلال.
وعند الزاوية الشمالية لهذه الساحة شيدت المدرسة الابتدائية الوحيدة فيها، من حجر أبيض يميزها عما حولها. وبجوارها تماماً تقع المقبرة التي لم تكن توحي بالوحشة، بل كانت أشبه بمنتزه عام لما يتخللها من أشجار ظليلة تحتضن رمالها الذهبية، يخترقها طريق يفضي إلى البحر عبر الكثبان الرملية، الحافلة بكروم العنب وأشجار التين والجميز، تتماوج على سفوحها وبين جنباتها في اتساق رائع بفوضاه وعدم انتظامه. وعلى مرتفع يحف بهذا الطريق ينتصب مقام - سيدنا أبي هريرة - كما كانوا يطلقون عليه، في غير قليل من الاجلال والتعظيم، والذي اعتاد الناس أن يتخذوه مزاراً، ومكاناً للوفاء بنذورهم. كما ألفوا أن يقيموا هنالك، وتحت ظلال أشجار الكينا العتيقة التي تكتنفه، سباق الخيل في مناسبات الأعياد والأعراس مع عزف الأرغول ودقات الطبول، وحلقات الدبكة .
جو قريتنا أخَّاذ ساحر. ففي الصيف تنساب النسائم الرقيقة، القادمة من البحر خلال البساتين والكروم، فترطب أجواء أزقتها الضيقة ومنازلها الوادعة. وفي الشتاء تكسو سماءها الغيوم، وتهطل الأمطار بوفرة مبشرة بقدوم الخير والخصب. يحلو لنا، عندئذ، أن ندلف خارج منازلنا تحت وابل المطر الغزير، على الرغم من تقريع أمهاتنا لنا، كيما نستمتع بمرأى الماء المتدفق منحدراً من أعالي القرية، خلال قنواتها الصخرية المتعرجة، مرسلاً خريراً صاخباً، بلونه القرميدي الداكن، الذي اكتسبه في رحلته عبر أسطحة المنازل وجدرانها الطينية، ومن تربة الأرض الحمراء. نغوص وسط مجرى مائي، كثيراً ما نسيء تقدير قوته، فلا تلبث المياه أن تسحب أحدنا، فنهرع إليه صائحين مهللين، في مزيج من الفزع والفرح. وكلما لاح لنا أن الخطر الذي يتهدد زميلنا أكبر كانت بهجتنا أوفر..!
يقع منزلنا على الطريق الرئيسي، عند منتصف السفح صعوداً وهذا الطريق هو صلة الوصل بين أعلى القرية وأدناها. كما أنه يشرف على البيوت الواقعة أسفل بيتنا، والمقاهي والدكاكين البادية عن بعد بمعروضاتها متباينة الألوان والأنواع، والمضاءة ليلاً بمصابيح الغاز.
ولقد كنا نحظى، ونحن جلوس على الشرفة (الليوان) وبفضل موقعنا هذا، بسماع الأغاني ونشرات الأخبار المنطلقة من جهاز الراديو في مقهى (حامد القاضي) عن كثب، فيما تتماوج أمام أبصارنا أشجار البرتقال، مترامية حتى الأفق.
لم يكن الراديو شيئاً مألوفاً بعد في تلك الأيام. لم يكن في القرية كلها سوى عدد منها لا يبلغ أصابع اليد الواحدة، يملكها سراة القوم، وفي طليعتهم المختار، وقد كان هذا خالاً لأمي. كان الناس يحارون في تفسير تلك الظاهرة العجيبة. حسب بعضهم أن ذلك الجهاز يحتوي رجلاً بداخله يصدح بالغناء، وهو نفسه يتلو القرآن، ويأتيهم بأنباء المشرق والمغرب أيضاً، واخبار الأولين والأخرين. كل أولئك وهو قاعد في مكانه لا يريم. إذن هذه احدى علامات الساعة واقتراب يوم القيامة بلا ريب ..!
عزز هذا اليقين، حجم الجهاز الذي كان يقارب المتر مربعاً أو مكعباً على أقل تقدير، مما يتيح للرجل الجلوس داخله في راحة تامة...!
في أمسيات الصيف، كنا نمضي سهرتنا في تلك الشرفة، أبواي، وأخواي، الأكبر والأصغر سعيد وأحمد. وكانت أمسياتنا أكثر ما تكون بهجة، وجمالاً أيام الانتصاف من الشهر القمري، حين يطل البدر قرصاً مستديراً ناصعاً من وراء الأفق، نرقبه فيما هو يمضي صعداً نحو قبة السماء، مضفياً على الكون والأشياء نوراً وبهاء، يغمر نفوسنا بالطمأنينة والسلام. ثم لا نلبث أن نعمد إلى اختراع الحكايا، وترديد ما يختلقه أو يرويه الوالدان من أساطير عنه، فيما تتناهى إلى أسماعنا أغنية من بعيد. وتبلغ سعادة أمي أوجها إذا كانت (أم كلثوم) تردد أغيتها الأثيرة لديها :
.... على بلدي المحبوب وديني ... زاد وجدي والبعد كاويني.
تتجاوب أصداؤها في كل الأرجاء برنينها الساحر، تثير الشجن والحنين إلى شيء غامض مجهول.
- 2 -
كان أبي سيد البيت المطاع. كلمته نافذة، ورأيه لا يناقش. شأنه في ذلك شأن سائر الرجال. وكانت أمي، بدورها، كغالبية النساء الريفيات، تجلُّ أبي وتوقره. لا تجادله في أمر، ولا ترد له مطلباً، إيماناً منها بالحكمة المأثورة القائلة بأن الزوج هو "الرب الأصغر" وأن غضبه "من غضب الخالق" جلَّ شأنه.
ولم يغير من هذا الوضع عشرتهما الطويلة الأمد تحت سقف واحد. فهي لم تكن تجد في نفسها الشجاعة الكافية لمفاتحته في شأن من الشؤون العامة أو الخاصة، دون أن تقدم لذلك بشيء من التسويغ او الاعتذار المسبق.
من هنا كانت مهمتها حرجة في ذلك الصباح، مما جعلها تقدم طعام الأفطار وهي في حالة من الاضطراب، مع أن المسألة لم تكن على تلك الدرجة من الخطورة. كان عليها أن تطلب اليه - أو على الأصح أن ترجوه - بأن يصطحبني إلى المدرسة، إذ كنت قد تأخرت في اليوم السابق بضع دقائق عن بدء الدرس الأول، وطلب إليَّ الأستاذ (عبد الخالق) أن أحضر في اليوم التالي بصحبة ولي أمري. ترددت والدتي قليلاً قبل أن تخبره بذلك، خشية أن يصَّب جام غضبه علينا جميعاً، ممثلين في شخصها. أو أن يوجه لها عاصفة من اللوم على تقصيرها في رعاية شؤون أولادها..!
كنت إذاَّك في أواخر السنة الثامنة من عمري. وفي الصف الثالث الابتدائي على وجه التحديد. ولم أكن قد مررت بالصفين الأول والثاني شأن من هم في مثل سني. إذ كنت قد أمضيت عامين في كتَّاب الشيخ (عبد الكريم كرِّيم) قبل أن أنتقل إلى المدرسة الأميرية، وفي أواخر السنة الدراسية أيضاً. وكان ذلك بسب مشاجرة وقعت بيني وبين طفل آخر من أترابي، لطمني على أثرها معاونه الشيخ أسعد - وهو كهل ضرير - على وجهي، فخرجت للتو مهرولاً إلى دارنا القريبة، حتى دون أن أنتظر ساعة الانصراف.
لم تكن الدراسة في ذلك الكتَّاب تنتظم التلاميذ صفوفاً أو فصولاً، بل كنا نجلس، كيفما اتفق، في فناء الدار المظللة بعريش من العنب. ثم نأخذ في ترديد آيات من القرآن الكريم، وراء الشيخ بأصواتنا الرنانة، التي كثيراً ما أقلقت راحة سكان الحي بأكمله. أو نعمد إلى كتابة وظيفة (الخط) طوال النهار حتى يصيبنا الملل بالدوار. وكان ذلك الدرس مجرد نسخ للسور الصغيرة على ألواح من الأجر، دون أن نفقه لما نكتب أو نقرأ معنى. أما في فصل الشتاء فكنا نقبع على حصير في قاعة فسيحة الأرجاء، ارتفع سقفها أمتاراً عديدة كي يزيد من برودتها. ليس لها سوى نافذة واحدة تطل على فناء الدار. وتردد بيننا انها كانت تستخدم من قبل مخزناً للتبن و الغلال، وفي فترة من الفترات كانت اسطبلاً يؤوي عدداً من البغال كان يملكها أصحاب الدار فيما سلف..!
كان أبي - كغيره من الناس في ذلك الوقت - يؤمن بما كان سائداً من نظريات وأفكار بين أهل القرى، تجمع في مجملها على أن التعليم الحق وقف على الكتاب دون غيره. وأن المدارس الحكومية التي أنشأها الانكليز لا تعلم غير البدع والضلال ..عن القط والفأر والثعلب.. وراس روس.. هذا بدلاً عن تحفيظهم القرآن الكريم..! لهذا كان عسيراً إقناعه بجدوى دخولي المدرسة الحكومية لولا تلك الحادثة. من هنا يمكنك أن تدرك مدى حرج والدتي وهي تحاول مفاتحته في ذلك الشأن.
بيد أن والدي - وهذه كانت مفاجأة لأمي لم تتوقعها - استشاط غضباً. لعن الكتَّاب وأصحابه. أمسك بيدي، وانطلق بي إلى دار الشيخ عبد الكريم، ليصب هنالك، وعلى رأس الشيخ أسعد (معاونه) سيلاً من عبارات التأنيب والتنديد. بل وليعلن على الملأ بأن ولده هذا لن يبقى في ذلك الكتَّاب بعد ذلك اليوم. وأن هذا الولد "خسارة فيكم بالله العظيم.. ". فأمثاله من النابهين لا ينبغي لمثل هذا المكان أن يحظى بهم. وهكذا خسر الشيخ عبد الكريم، بسبب الشيخ أسعد، أرغفة الخبز، وأعداداً من البيض المسلوق، ومواد غذائية أخرى كان يتقاضاها أجراً، بمثابة رسوم تعليم..!
لم يكن أبي قاسياً تماماً، لكنه كان حازماً، فما أن غادرنا الكتَّاب، في ذلك الصباح، ثم يممنا شطر المدرسة الحكومية، استجابة لرجاء أمي، حتى أخذ يحادثني، لكأنما يحاول التسرية عني، أو إشعاري برضاه علي، لا أدري. مررنا بدكان البقالة لصاحبها (أبو العبد الرملاوي) الذي سرعان ما هب واقفاً، ليرد تحية الصباح بحفاوة واضحة، داعياً أبي لمشاركته تناول القهوة. ثم مررنا أمام دكان الحلاق (أحمد الجمل). وكان هذا منهمكاً برش الرصيف أمام دكانه بالماء، وذلك على الرغم من مطر الليلة المنصرمة. انعطفنا يميناً لنطل على الطريق العام. سألني عن موعد الامتحانات المقبلة في المدرسة. ثم ربت على كتفي، وهو يشدني بيده من كتفي البعيد عنه، كي التصق به، وهو يقول:
- اذا كان ترتيبك جيداً فلسوف أشتري لك حذاء جديداً..!
لم تكن فرحتي، عند ذاك بالهدية الموعودة بقدر ما كانت من أجل انفراج أسارير أبي.
واصلنا سيرنا المتعرج تبعاً لانعطافات الطريق. رائحة التربة المبللة بمطر الليلة الماضية تنبعث نقية نفاذة، وهدير البحر خافتاً يأتي من بعيد، وغيوم تباينت ألوانها ما بين بنفسجي رقيق، ورمادي داكن تتراكم عند الأفق الغربي. كنت أرقب السحب وهي تسبح من فوقنا، فأنشغل بها لحظات، عن الطريق والمدرسة. أتصورها أشكالاً خرافية عجيبة كتلك التي تتراءى لنا في الأحلام.
تنبهت إلى جلبة وصياح، سرعان ما تبينت مصدرهما. كنا قد بلغنا الطريق العام، نوشك أن نقطعه إلى الطرف الآخر، حيث السوق ثم المدرسة. الناس يتحركون في ذعر. سيارات عسكرية تعبر الطريق مسرعة، ثم تنتشر في اتجاهات مختلفة. بعضها يتوقف، وبعض يتابع السير فيما الجنود يقفزون منها في كل اتجاه. انطلقوا يصيحون بالمارة وبمن هم في المقاهي مشرعين بنادقهم وحراباً لامعة في مقدماتها تثير الرعب. توقف أبي عن السير. بدا عليه القلق. تمتم بصوت خفيض:
- الانكليز.. يافتاح يا عليم.. نعود يا بني إلى البيت.. لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم..!
وعلى حين غرة أخذوا يطلقون الرصاص في مختلف الأنحاء. اجتاحني الذعر. اقتربت من أبي ألوذ به.. سمعت عنهم في المدرسة، وفي كل مكان لكني لم أرهم رأى العين في مثل هذه الحال قبل ذلك.
صرخت في فزع:
- نعود يا أبي ..
وفي ذات اللحظة رأيته يضع يده على صدره، تجحظ عيناه.. يرتجف.. الدماء تنبثق من صدره.. تفلت يدي من قبضته.. يترنح.. يتهاوى.. يسقط.. يعقد الذهول لساني.. يا إلهي.. هذه اللحظة كنت أسمع صوته.. ارتميت فوق صدره ..أضمه.. ألتصق به - أغمره بالدموع.. أصرخ بجنون:
.. يابا.. يابا ..
وجرس المدرسة يدق وسط زخات الرصاص آتياً من مكان سحيق.
- 3 -
وقفت أمي قرب باب الدار مع من تجمع من الجارات إثر سماعهن أصوات الرصاص، وصياح الصبية الذين اندفعوا يتراكضون خلال الأزقة. أدركن للتو أنها عملية انكليزية أخرى. استوقفن واحداً من الغلمان، فأنبأهن بأن الانكليز قد أطلقوا الرصاص على الناس في المقاهي والطرقات والسوق.. إنهم يطلقون الرصاص في كل مكان.. أخذن يتساءلن في توجس وقلق عن السبب الذي دعا هؤلاء إلى اقتراف جرائم جديدة في قريتهم في هذا اليوم، خمنت إحداهن قائلة:
- ربما كان ذلك بسب نسف الثوار للخط الحديدي بالأمس على مقربة من القرية .
عقبت أخرى بسخرية:
- ومتى كان هؤلاء ينتظرون سبباً يبرر ارتكاب الجريمة التي يريدون يا حبيبتي ..
تدخلت ثالثة :
- إذا كان الأمر كذلك يا أم مريم فلسوف تأتي اليوم الانذارات بالعقوبات الجماعية التي ابتكروها.. سيفرضون علينا عقوبات فادحة هذه المرة غرامات وجزاءات أيضاً..
قالت أم مريم باستنكار :
- وهل بقي لدينا ما نقدمه يا فاطمة ؟
- من قال لك، يا حبيبتي أن (إنسانيتهم) سوف تجعلهم يقدرون ظروفنا ..؟
- ولكن أليس هذا هو الظلم بعينه؟ الفاعل واحد أو اثنان أو ثلاثة، فما معنى أن يؤاخذ الجميع..؟ هذا إن كان ما فعلوه جريمة حقاً ..!
قالت (أم سعيد) وقد ظلت صامتة طوال الوقت :
- تتحدثن عن الظلم والظالمين، يا نور عيني، ووجودهم هنا، هو منتهى الظلم. بأي حق هم هنا أصلاً ..؟
سادت لحظات صمت. مضت كل واحدة منهن تضرب أخماساً في أسداس، بينها وبين نفسها، إلى أن عبرَّت أم مريم عما كان يساورها من قلق:
ترى من هي المسكينة التي حلت بها المصيبة في هذا النهار ؟
ردت أم عدنان في صوت خافت تشوبه نغمة حزن طال بها العهد:
- كما ترين. نربي أبناءنا الأيام والسنين.. نفني أعمارنا في تنشئتهم يوماً بيوم، ساعة بساعة.. نبني عليهم آمالنا العريضة.. نود لو نفديهم بأرواحنا إذا أصابهم مكروه.. ثم نفقدهم في طرفة عين.. يد غريبة تجيئ من أقصى الأرض، تضغط على الزناد، وينتهي كل ما بيننا..! أطرقت النسوة إجلالاً لأم عدنان التي سبق لها أن فقدت ولدها عدنان في ظرف مماثل منذ شهور قليلة ومابرحت تتشح بالسواد .
- إنهم.. هكذا.. ببساطة متناهية يسلبوننا حق الحياة، ولا يحاسبهم أحد.
- من أجل ذلك قامت الثورة يا عزيزتي. هي التي ستأخذ على عاتقها أمر حسابهم .
قالت أم سعيد، لنفسها وهي تستمع إلى رفيقاتها، أنها سوف تطلب إلى (أبو سعيد) فور عودته، أن يقلل من خروجه منذ اليوم، ما دامت الاستهانة بأرواح الناس قد بلغت هذا الحد.
لكن خوفاً غامضاً يسري في أعماقها. بل إنها تحس بذلك الشيء المبهم يلم بها منذ أيام، دون أن تعرف كنهه أو تجد له تفسيراً. حتى أحلامها كانت في الأيام الأخيرة كوابيس مرعبة. وهي من ثم، تلعن الشيطان تارة، وتعوذ بالرحمن، تارة أخرى، مؤملة ألا يكون مبعث ذلك الانقباض سوى كآبة عارضة لن تلبث أن تزول، أو بسبب مرض خفي يلم بها لم تتبين ما هيته. آه ليت الأمر يكون كذلك..! أو هي تلك الأحداث التي تسود البلاد فتقبض النفس.
تحاول التخلص من ذلك الشعور الممض بالجنوح إلى التفكير في المستقبل، وبما يمكنها أن تتخذ من أسباب الحيطة - في نطاق صلاحياتها المحدودة - بما يضمن سلامة أبنائها، وأبيهم .
أصوات هادرة تترامى عن بعد. تقترب رويداً.. تتعالى.. تتضح معالمها أكثر فأكثر، إلى أن تتحول إلى هدير مرعد. جمهور غفير تبدو طلائعه عند ناصية الشارع. يهرع الأطفال من البيوت المجاورة على جانبي الطريق، يرفدون الموكب بانضمامهم إليه، فيكبر، ثم يكبر، حتى يضيق بهم الزقاق. همت عائشة (أم سعيد) بأن تنادي أحدهم كي تسأله عن ذلك الشهيد المحمول على الأكف والأكتاف. غير أنها أمسكت حين رأت غلاماً يهرول نحوهن، وهو يصيح بأعلى صوته، وكأنه يعلن بشارة سوف ينال عليها مكافأة :
- الانكليز.. قتلوا عم سليم.. أبو سعيد ..!
شق الفضاء صراخها المروع فيما هي تندفع نحو الجموع، والنسوة اللائي ذهلن للحظة، أمسكن بها لمنعها من اقتحام الموكب، وهي في حالة تشبه فقدان الوعي. يخرج من بين الجمهور شقيقها (رمضان) متصدياً لها، محيطاً إياها بذراعيه، زاجراً ومناشداً :
- قضاء الله الذي لا مفر منه.. إنه شهيد يا أختاه.. هنيئاً له.. كفى.. كفى بالله عليك.. أنت عاقلة ياعائشة.. إنه قدره.. !
تصرخ في التياع :
- المجرمون.. قتلك المجرمون.. ويلهم من الله.. أين ولدي.. أين أمين ؟
هتف رمضان كي يُسمعها.. وربما ليسكتها :
- أمين بخير.. أقسم لك أنه بخير..
كنت في تلك اللحظة أهرع إليها.. أرتمي في حضنها.. يهزني النشيج هزاً، كأني ألتمس في حضنها عودة أبي للحياة.. شعرت كأني غبت عنها دهراً.. وها أنذا أعود. طفقت تضمني إليها بعنف.. تقبلني بجنون، كأنها لا تصدق أني بين يديها. غمرت وجهي دموعها.. اختلطت دموعنا معاً، وهي تغمغم بكلمات تضيع بصوتها المبحوح بين البكاء وأصوات الجموع الغاضبة .
تبين أن عدد قتلى ذلك الصباح خمسة، والجرحى ضعف هذا العدد. شيعوا جميعاً في جنازة واحدة، تحولت إلى مظاهرة تندد بالجناة، وتطالب بالاستقلال وسقوط بلفور..! حال بعضهم بيني وبين مشاهدة القبر ساعة الدفن. دعينا مع حشد من الناس إلى الغداء في بيارة أبو جبريل النجار، حيث ذبحت الخراف، وقدم طعام كثير للجميع. في (بواطي) ملأى بالأرز واللحم والرجال لا يكفون عن الحديث حول الحادث وحوادث أخرى كثيرة سبقته في قريتنا، كما في غيرها.
في دارنا واصلت النساء إحضار الطعام، ومواد أخرى كالسكر والقهوة والأزر. ولا يزيد ذلك أمي إلا حزناً وألماً وبكاءً. طفقن يعزينها بكلام كثير. يضربن الأمثال، ويرددن الحكايا من حوادث الأيام الغابرة والراهنة .
صبيحة اليوم التالي لتشييع جثمان أبي، وضعت لنا أمي على (الطبلية) فطوراً من البيض المسلوق والزيتون وخبز الطابون، وصحناً من العسل. هذا الأخير كان مما جاءت به الجارات. لم يكن العسل طعاماً مألوفاً لدينا في وجباتنا المعتادة. دار الجمل يتناولونه، ودار ابو عون وغيرهم من اثرياء القرية، أما نحن..؟
أُحسُّ بفراغٍ يحتلُّ مكان أبي، حيث كان يجلس بيننا، ونحن من حوله.. لكن ها هو ذا أمامي في مكانه المعتاد. صغيرتنا علياء تقبع في حجره. يضحك لها.. يضمها إليه.. يمسِّد شعرها.. يضع اللقمة في فمها بعد أن يغمسها بالعسل.. تسمَّرت يدي في مكانها قبل أن تبلغ الطبق. انفجرت بغتة باكياً، بصوت ارتاعت له أمي الجالسة قريباً منا مع جاراتها، فأقبلت مسرعة، تاركة النسوة اللواتي ملأن المكان صخباً. تبعنها سراعاً. واحتضنتني أمي وبصوت مبحوح : " مالك يمَّة.. " انفجرت علياء أيضاً تنشج بصوت عالٍ. بادرت خالتي الى حملها.. تلصقها بصدرها.. تهدهدها.. تقبلها وهي تردد بصوت يخنقه البكاء .
".. مالك يا حبيبتي.. اسم الله عليكِ.. الله يجازي أولاد الحرام.. أبوكِ مسافر بكره ييجي ياحبيبتي ...
أبي يرمقنا بعينين حزينتين.. يمضي بعيداً يتلاشى في الغمام المائل مابين عينيَّ والسماء..